سورة الرعد - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


اختلف المفسرون في تفسير الكتاب المذكور فقيل: هو التوراة والإنجيل، والذين يفرحون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من أسلم من اليهود والنصارى، وقيل: الذين يفرحون هم أهل الكتابين لكون ذلك موافقاً لما في كتبهم مصدّقاً له، فعلى الأوّل يكون المراد بقوله: {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} من لم يسلم من اليهود والنصارى، وعلى الثاني يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يمثالهم، أو يكون المراد به البعض من أهل الكتابين أي: من أحزابهما، فإنهم أنكروه لما يشتمل عليه من كونه ناسخاً لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما، وقيل: المراد بالكتاب القرآن، والمراد بمن يفرح به المسلمون، والمراد بالأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهود والنصارى، والمراد بالبعض الذي أنكروه من خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم. واعترض على هذا بأن فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره، وأجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار، وقال كثير من المفسرين: إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فأنزل الله: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] ففرحوا بذلك، ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرّح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم ذلك، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أي: لا أشرك به بوجه من الوجوه أي قل لهم: يا محمد إلزاماً للحجة، ورّداً للإنكار: إنما أمرت فيما أنزل إليّ بعبادة الله وتوحيده، وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل.
وقد اتفق القرّاء على نصب: {ولا أشرك به} عطفاً على {أعبد}. وقرأ أبو خليد بالرفع على الاستئناف، وروى هذه القراءة عن نافع {إِلَيْهِ ادعوا} أي: إلى الله لا إلى غيره أو إلى ما أمرت به، وهو عبادة الله وحده، والأوّل أولى لقوله: {وَإِلَيْهِ مَآبِ} فإن الضمير لله سبحانه أي: إليه وحده: لا إلى غيره مرجعي.
ثم ذكر بعض فضائل القرآن، وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعرّض لردّ ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض شرائعهم فقال: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا} أي: مثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا القرآن مشتملاً على أصول الشرائع وفروعها. وقيل: المعنى: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم، كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب، ونريد بالحكم ما فيه من الأحكام، أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصاب {حكماً} على الحال {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء مما يعتقدونه {بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} الذي علمك الله إياه {مالك مِنَ الله} أي: من جنابه {مِن وَلِىّ} يلي أمرك وينصرك {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من عذابه.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض لأمته، واللام في {ولئن اتبعت} هي الموطئة للقسم، و{مالك} سادّ مسدّ جواب القسم والشرط.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} أي: إن الرسل الذين أرسلناهم قبلك هم من جنس البشر، لهم أزواج من النساء، ولهم ذرّية توالدوا منهم ومن أزواجهم، ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوجون ولا يكون لهم ذرية. وفي هذا ردّ على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجه بالنساء أي: أن هذا شأن رسل الله المرسلين من قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه؟! {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: لم يكن لرسول من الرسل أن يأتي بآية من الآيات، ومن جملتها ما اقترحه عليه الكفار إلاّ بإذن الله سبحانه، وفيه ردّ على الكفار حيث اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات ما اقترحوه بما سبق ذكره. {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي: لكل أمر مما قضاه الله، أو لكل وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب عند الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم.
وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، والمعنى: لكل كتاب أجل أي: لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل، ووقت معلوم، كقوله سبحانه: {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] وليس الأمر على حسب إرادة الكفار واقتراحاتهم، بل على حسب ما يشاؤه ويختاره.
{يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} أي: يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه، يقال: محوت الكتاب محواً إذا أذهبت أثره. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم {ويثبت} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر، أو خير أو شرّ، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبو وائل، وقتادة، والضحاك، وابن جريج وغيرهم. وقيل: الآية خاصة بالسعادة والشقاوة. وقيل: يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل: يمحو ما يشاء من الرزق، وقيل يمحو من الأجل. وقيل: يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وقيل: يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء. وقيل: يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة. وقيل: يمحو الآباء ويثبت الأبناء. وقيل: يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وقيل: يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيردّه إلى صاحبه. وقيل: يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها. وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. وقيل: غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره، والأوّل أولى كما تفيده {ما} في قوله؛ {ما يشاء} من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ومع قوله: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: «جفّ القلم»، وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه. وقيل: إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} قال: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرحوا بكتاب الله وبرسله وصدّقوا به {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} يعني: اليهود والنصارى والمجوس.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك. {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} [يونس: 40]. {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} قال: الأحزاب الأمم اليهود والنصارى والمجوس.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {وَإِلَيْهِ مَابِ} قال: إليه مصير كل عبد.
وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل، وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سعد بن هشام قال: دخلت على عائشة فقلت: إني أريد أن أتبتل؟ قالت: لا تفعل، أما سمعت الله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً}.
وقد ورد في النهي عن التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: {مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً لهم {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا شيئاً، ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} قال: ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت، إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله.
وأخرج ابن جرير، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضاً في الآية قال: هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت، وعنده أم الكتاب، أي: جملة الكتاب.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درّة بيضاء، له دفتان من ياقوت، والدفتان لوحان: لله كل يوم ثلاث وستون لحظة {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدّثنا محمد بن شهر بن عسكر، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس فذكره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت» الحديث.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه بإسناد. قال السيوطي: ضعيف، عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلاّ الشقاوة والسعادة والحياة والممات».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «لا ينفع الحذر من القدر، ولكنّ الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر».
وأخرج ابن جرير عن قيس بن عباد قال: العاشر من رجب وهو يوم يمحو الله فيه ما يشاء.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عنه نحوه بأطول منه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال وهو يطوف بالبيت: اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} قال: يبدّل الله ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدّله {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} يقول: وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب: الناسخ والمنسوخ، ما يبدّل، وما يثبت كل ذلك في كتاب.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} قال: الذكر.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن يسار، عن ابن عباس: أنه سأل كعباً عن أمّ الكتاب، فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عالمون، فقال لعلمه: كن كتاباً، فكان كتاباً.


{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} {ما} زائدة وأصله: وإن نرك {بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا} وبقولنا: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} والمراد أريناك بعض ما نعدهم قبل موتك، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي: فليس عليك إلاّ تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم {وَعَلَيْنَا الحساب} أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك. وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته، ويصدّق نبوّته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أهل مكة، والاستفهام للإنكار، أي: أولم ينظروا {أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي: نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئاً فشيئاً. قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول: أولم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف لا يعتبرون؟ وقيل: إن معنى الآية: موت العلماء والصلحاء. قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف.
وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم. قال القرطبي: وهذا القول بعيد؛ لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلاّ أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى. وقيل: المراد من الآية خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها. وقيل: المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم. وقيل: المراد نقص ثمرات الأرض. وقيل: المراد جور ولاتها حتى تنقص.
{والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} أي: يحكم ما يشاء في خلقه، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيي وهذا ويميت هذا، ويغني هذا، ويفقر هذا، وقد حكم بعزّة الإسلام وعلوّه على الأديان. وجملة {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} في محل نصب على الحال. وقيل: معترضة. والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يقفيه بالردّ والإبطال. قال الفراء: معناه لا رادّ لحكمه، قال: والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه، ولا يستدرك أحد عليه، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله سبحانه بنقص ولا تغيير. {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته على السرعة {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} أي: قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل؛ فكادوهم وكفروا بهم، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} لا اعتداد بمكر غيره، ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشرّ فيجازيها على ذلك.
ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون.
وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق فلا يضرّ إلاّ بإرادته. وقيل: المعنى فللّه جزاء مكر الماكرين {وَسَيَعْلَمْ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار}. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو {الكافر} بالإفراد، وقرأ الباقون {الكفار} بالجمع، أي: سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا، أو في الدار الآخرة، أو فيهما. وقيل المراد بالكافر، أبو جهل.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} أي: يقول المشركون أو جميع الكفار: لست يا محمد مرسلاً إلى الناس من الله، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو يعلم صحة رسالتي، وصدق دعواتي، ويعلم كذبكم {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: علم جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري ونحوهم، وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك. وقيل: المراد بالكتاب القرآن، ومن عنده علم منه هم المسلمون. وقيل: المراد من عنده علم اللوح المحفوظ، وهو الله سبحانه، واختار هذا الزجاج وقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: «ذهاب العلماء».
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في الفتن، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موت علمائها وفقهائها وذهاب خيار أهلها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: موت العلماء.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: يعني أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان ينتقص له ما حوله من الأرضين ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون.
وقال الله في سورة الأنبياء: {نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44]. بل نبي الله وأصحابه هم الغالبون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: نقصان أهلها وبركتها.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: إنما ننقص الأنفس والثمرات وأما الأرض فلا تنقص.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: أولم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} ليس أحد يتعقب حكمه فيردّه كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجدني في الإنجيل؟ قال: لا، فأنزل الله: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}» يقول عبد الله بن سلام.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضاضتي باب المسجد، ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أني الذي أنزلت فيّ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}؟ قالوا: اللهم نعم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام، والجارود، وتميم الداري، وسلمان الفارسي.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه، وابن عديّ بسندٍ ضعيف عن ابن عمر، أن النبيّ قرأ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: «ومن عند الله علم الكتاب».
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يقول: ومن عند الله علم الكتاب.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف؟ وهذه السورة مكية..
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: جبريل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هو الله.

1 | 2 | 3